من الدبلوماسية إلى الحكم لهذه الأسباب يترأس مصطفى أديب الحكومة
رغم كفاءته واستحقاقه لقب دولة الرئيس، والثقة بطاقاته في إدارة شؤون البلاد، إلاّ أنّ اختيار الدكتور مصطفى أديب، ابن طرابلس، وأحيائها، وحاراتها، كان مفاجئاً، خصوصاً أنّه أمضى وقتاً من الزمن وهو غائب عن لبنان، غارقاً في المهمة التي أُوكلت إليه كسفير للبنان في إحدى أكبر وأهم دول العالم، ألمانيا.
اعترض كثيرون على طريقة اختياره، واعتبروها خارجة عن القوانين الديمقراطية والدستورية، متناسين أنّ اللعبة اللبنانية تتم بالتشاور من فوق وتخرج بالصورة الدستورية المطلوبة. لكن أيّاً يكن، فمسألة اختياره رئيساً للحكومة، تمت بإشراف دولي، ممّا يعطيه قوة ودفعاً وقدرة على الحكم، شرط ذلك إيفاء دول العالم الغربي بتعهداتها تجاه الرجل الجديد في سياسة الحكم والحامل أعلى شهادات اختصاص بالدساتير، والقوانين الدولية.
ولولا ثقة الرئيس أديب بنفسه، وثقته بدعم قوى خرج من صفوفها، و تمرّسه في العمل العام في مؤسساته، أعني مؤسسات العزم والسعادة، لما قبل بالمهمة لما تتطلّبه من تحمل مشقات حكم منهك، متهالك، متعرّض لأبشع أنواع الضغوط الدولية، مّما يعني عليه مواجهة مواقف ومطالب ربما لم يشهدها بلد في العالم سوى لبنان.
ولأنّ الرئيس أديب ينتمي إلى تيار سياسي، فقد قبل المهمة حرصاً على حماية التيار الذي خرج من صفوفه، ومن خلاله توصّل ليكون سفيراً من الدرجة الأولى، ويمثّل لبنان في دولة عالمية، هي الأكثر تطوراً صناعياً، وعلى أكتافها يقوم الاتحاد الأوروبي. من هذه المهمة، كان عليه أن يواكب تحديّات الدول الكبرى في تجاذباتها، ويستطيع تحديد الموقف اللبناني السليم منها. ولأنّ الرئيس أديب خرج من صفوف تيار الوسطية الأول في لبنان برضا دولي، فذلك يعني أنّ البلد دخل في فترة من الهدوء النسبي، إذ أنّ الوسطيين هم رجال التسويات التي تتم تجنباً للحروب المدمرة التي دفع فيها لبنان والعالم العربي الغالي والنفيس، وعرض مستقبله ومستقبل أجياله لخطر الضياع في متاهاتها.
ومن المفيد جداً أن نرى وجوهاً جديدة في الحكم اللبناني، ونخباً تتولّى أعلى مهام الدولة، وهي قادمة من أكاديميات عالية التخصص، مما يعطي ثقة بإمكانية الحكم بطريقة صحيحة، وبناء الدولة بطرق مؤسساتية، بعيداً عن المحاصصات الطائفية. فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بشخصية منفتحة، تحمل الشهادات الدولية العالية، وتؤمن بالتطوير، وبناء الدولة بالطرق الحديثة والمتطورة وفق ما اختبرها في دراساته، أم عبر معايشته لها في مهمته كسفير.
لم يتردّد أديب في قبول المهمة، وهو مدرك حجم التركة التي تنتظره، وحجم الدمار الذي يواجهه، وكمية الإصلاحات المطلوبة منه لتحقيقها، بعد مرور عقود من الحكم بطريقة عشوائية وفوضوية غلبت عليها النزعة الفردية، وحُكمت بالتوزيع الطائفي والمذهبي، فكانت التجربة الأغرب بين بلدان العالم.
وأديب الجاد، الذي قبل التحدي بالانتقال من موقع ومهمات سفير محصورة، إلى رحاب حكم بلد مهما صغر حجمه، قام فور تكليفه بتفقد أحياء بيروت المتضرّرة بانفجار المرفأ، بدلاً من التوجه إلى بيته، أو مدينته، كما اعتاد الرؤساء فعله، مما يدلّ على أنّ الوطن، وليس فئة فيه، هي من همومه، وقضاياه من الأمور التي تشغل باله، وفق سلم أولويات لم يترك له المجال لتسجيله، لكنّه كان متركزاً في عقله وفكره وهو يتابع أمور وطنه من منصة ديبلوماسية.
بدا وهو خارج من القصر الجمهوري رجل دولة متمرّس، بينما لم يتقرب من السياسة المباشرة سابقاً، وطرح أقوالاً تنّم عن التزام وطني بالإصلاح، بعملانية، وليس بقطع الوعود، ورمي الكلام الكثير. خرج إلى العام يتبنى طروحات الجروح اللبنانية، عارفاً أنّ الإصلاح شرطه للنجاح، وإلاّ لن ينال أي دعم أو مساعدة من الخارج.
عرف رئيس الحكومة العتيدة أنّ مكافحة الفساد بكل ما يعنيه من تغلغل في أروقة الدولة، ومفاصلها، هو همه الأول، وطريقه للإنقاذ، وإلا على الدنيا ومن فيها السلام.
تكليف أديب بمهمة رئاسة الحكومة، تنتظرها مشاكل كبرى تضغط بها سياسة الدول الكبرى والمؤثرة على لبنان، حيث تُعرف أجندة كل طرف، وتبريرات كل صاحب ضغط وهجوم وتهديد للبنان ولقيادات فيه، فلم تعد الأشياء غامضة. المنطقة تقف على الحد الفاصل بين سياستين: غربية، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات ومهمات، وشرقية صاعدة ترغب بالحضور إلى المنطقة، حيث لها، كما لكل الدول مصالح كبرى.
وفي ذروة التحدي، وبلوغ قمة الصدام، تنفجر بيروت عبر مرفئها، لتعطي المبرر للرئيس الفرنسي، وريث الدولة الاستعمارية التي بنت لبنان على الصيغة التي تناسبها، لزيارة لبنان، والانخراط في تركيب بنيته من جديد، مستعيراً صورة العشرين، وال١٩٤٣، وما بينهما من تجاذبات.
كأنّ المطلوب من أديب أن يصوغ بديلاً من البديل الاستعماري الذي أرسته فرنسا، وتكاد صلاحيته تكون قد انتهت، وإذ بأديب ينبري ليضع وبسرعة طارئة، مقولة لبنان الجديد دولة المؤسسات، والتكافؤ والإصلاح، علّنا ندخل مفرق الطرق المؤدية للدولة الحديثة، تحكمها النخب والنظر للكفاءة، ويُستبعد منها الرجال الذين أثبتوا عبر سنين متواصلة من الحكم، أنّهم لم يأتوا للبلاد بجديد.
وسطية أديب تخلق متنفساً للبنان هو بأحوج ما يمكن إليه. علّنا معه نرسو إلى حياة دستورية، علمانية، غير مذهبية، تؤمن استقراراً بات ملحّاً للبنان، وتبني مستقبلاً زاهياً لأبنائه.
سمير الحسن